أعراس سودانية في قلب القاهرة… حين يُغنّي المهجر على إيقاع الدلوكة
السودانيون في مصر... أعراس على وقع "الدلوكة" وذاكرة لا تنسى

مقالات _ امواج نيوز _ القاهرة – أبريل 2025
وسط زخم الحياة اليومية في مدن مصر المختلفة، من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن أسوان إلى الأقصر، يبرز حضور الجالية السودانية كنموذج فريد للتعايش، ومثال حيّ على التمسك بالجذور رغم الغربة. ورغم تحديات الحياة في المهجر، فإن السودانيين المقيمين في مصر لم يتخلّوا عن هويتهم الثقافية، بل حافظوا عليها، وأعادوا إحيائها في تفاصيل الحياة اليومية، خاصة في المناسبات الاجتماعية الكبرى مثل الأعراس.
في تلك المناسبات، تنقلب القاعات، وأحيانًا الأحياء السكنية، إلى مساحات نابضة بالألوان، والأصوات، والروائح، حيث تنبعث نغمات “الدلوكة”، وتُسمع الزغاريد، وتعلو الابتسامات على وجوه الحاضرين، كأنهم في قلب الخرطوم أو أم درمان، لا في بلد أجنبي.
الهوية في قلب الغربة
لا شك أن المغترب يواجه الكثير من التحديات، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو حتى ثقافية. ولكن الجالية السودانية في مصر استطاعت أن تحوّل هذه التحديات إلى فرص. فمن خلال الأعراس، تجد فرصة لإعادة بناء روابط المجتمع، والتأكيد على أن الهوية لا تموت، بل يمكن لها أن تزدهر حتى خارج حدود الوطن.
وعلى الرغم من بساطة الإمكانيات أحيانًا، فإن الأعراس السودانية في مصر تتميز بالغنى الثقافي والتنوع، حيث يحرص أهل العريس والعروس على تقديم كل ما يعبر عن “الفرح السوداني الأصيل” بدءًا من الضيافة وانتهاءً بالموسيقى والرقصات التراثية.
طقوس لا تشيخ
لا يختلف اثنان على أن الأعراس السودانية تمتاز بطقوسها الخاصة التي تعكس تنوع الثقافات داخل السودان نفسه، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب. هذه الطقوس لا تبهت في الغربة، بل يتمسّك بها أفراد الجالية وكأنها خيط يربطهم بالأرض والذاكرة.
يبدأ الفرح السوداني عادةً بليلة “الحَنّة”، وهي طقس مهم يُقام في منزل العروس ويحضره الأهل والأصدقاء. وتُزيّن أيدي العروسين بنقوش الحناء الجميلة، في أجواء يغلب عليها الطرب والمرح. في مصر، لم يختلف الأمر كثيرًا، إذ تحرص العائلات على إقامة ليلة الحنة بنفس الطقوس، وكأنهنّ في بيوت الخرطوم أو بورتسودان.
الزيّ والتقاليد… رموز حاضرة
من أبرز ما يميز الأعراس السودانية، حتى في المهجر، هو الزي التقليدي. فتجد النساء يرتدين “التوب السوداني” بكل ألوانه وزخارفه، بينما يرتدي الرجال الجلابية والعمامة، في مشهد يأسر القلوب ويجذب أنظار كل من يشاهده، حتى من غير السودانيين.
هذا التمسك بالزيّ لا يعكس فقط الجمال الخارجي، بل يُترجم رسالة عميقة مفادها أن الهوية ليست مجرد تفاصيل، بل هي أسلوب حياة، وجزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية.
الدلوكة… نبض الفرح السوداني
لا يمكن الحديث عن الأعراس السودانية دون التوقف عند “الدلوكة”، تلك الآلة الموسيقية التقليدية التي تصنع الإيقاع الحي للفرح. صوت الدلوكة هو إعلان صريح بأن هناك فرحًا في الطريق، ووجودها في الأعراس السودانية في مصر تأكيد على أن الفرح يمكن أن يسافر، وأن التراث قادر على اجتياز الحدود.
في كل عرس، يتجمّع الحضور حول إيقاعات الدلوكة، ترقص النساء في حلقات، وتتعالى أصوات الغناء الشعبي، وتُنشد الأغاني التي تمجد العريس والعروس، بل أحيانًا تروي سير الأجداد ومآثرهم. هذه الأغاني ليست فقط وسيلة للترفيه، بل هي أرشيف حي لذاكرة المجتمع.
نقل التراث عبر الأجيال
السودانيون في مصر يدركون تمامًا أن أطفالهم قد لا يعيشون في السودان يومًا، لكنهم يحرصون على أن يعيش السودان فيهم. ولذلك، تجدهم يُشركون أبناءهم في كل تفاصيل هذه المناسبات: من التحضير، إلى الحضور، إلى المشاركة في الغناء والرقص. فتتحول المناسبة إلى درس عملي في الهوية والانتماء.
الأعراس… جسر اجتماعي
بعيدًا عن الطقوس والرمزية، فإن هذه الأعراس تؤدي دورًا محوريًا في توطيد العلاقات بين أفراد الجالية السودانية. ففي كل مناسبة، تلتقي العائلات، ويتبادل الناس الأحاديث والقصص، وتُبنى صداقات جديدة، وتُجدّد العلاقات القديمة. وكأن الفرح يصبح مساحة لبناء مجتمع متماسك، يتجاوز التحديات اليومية بالغناء والضحك والدفء الإنساني.
رسالة إلى الداخل والخارج
من خلال هذه الاحتفالات، يبعث السودانيون في مصر برسالة واضحة: “نحن هنا، نحمل السودان في قلوبنا، ونغنيه في أفراحنا”. وهي رسالة تعكس قوة الثقافة، ومرونتها، وقدرتها على البقاء رغم كل التغيرات والظروف.
كما تمثل هذه المناسبات فرصة لتعريف المجتمع المصري والمجتمعات الأخرى بثقافة السودان الثرية، وتعزيز أواصر المحبة والتفاهم بين الشعوب.
ختامًا… الفرح هوية لا تموت
إن ما يقدمه السودانيون في مصر من تمسك بالفرح والتراث هو أكثر من مجرد احتفال، بل هو تعبير حيّ عن ثقافة ممتدة، وهوية متجذرة، وشعب لا ينسى من هو، مهما ابتعدت المسافات. فبين صوت الدلوكة، ورقصات النساء، وضحكات الأطفال، يعيش السودان، ويكبر في قلوب أبنائه في المهجر، يومًا بعد يوم.