مهند عباس العالم يكتب…غدر الجار القاسي في ظل الحرب
خيبة الثقة: حين جاء الغدر من الجار لا العدو

مقالات _ امواج نيوز _مهند عباس العالم حين اندلعت الحرب في السودان، كنا نظن أن أقسى ما سنواجهه هو خطر الرصاص والدمار القادم من الجماعات المسلحة، وتحديدًا من قوات الدعم السريع التي عرفنا مسبقًا قدرتها على إثارة الفوضى. لكن الحقيقة المؤلمة التي واجهتنا لم تأتِ من هناك فقط، بل من أماكن لم نتوقعها على الإطلاق. لقد صدمنا من أشخاص كنا نعدهم إخوتنا وجيراننا وأصدقاءنا، حين رأينا بعضهم ينخرط في أفعال لا تليق بما عرفناه عنهم يومًا.
كان من المؤلم أن نرى من شاركونا الحياة في الحي، ممن كنا نظنهم أهلًا للسند والأمان، وقد استغلوا الوضع الأمني الهش طمعًا في مكاسب لحظية، فبدلًا من حماية بيوت الناس، شاركوا في اقتحامها ونهبها. تسللوا إلى منازل مهجورة بفعل القتال، وسرقوا متعلقات من اعتبروهم يومًا أقرب من الإخوة. البعض ارتدى زيًا عسكريًا ليس حمايةً للناس، بل لإضفاء شرعية على تجاوزاتٍ لا تمت لأخلاق المجتمع بصلة.
هذه التصرفات لم تكن مجرد أفعال فردية، بل عكست حالة من التراجع المؤسف في منظومة القيم التي نشأنا عليها، نحن الذين نؤمن بأن الجيرة لها حقوق، وأن الكرامة لا تُمس حتى في أقسى الظروف. كنا نتوقع أن تكون الجيرة حصنًا منيعًا أمام المحن، لكنها في كثير من الحالات تحوّلت إلى مصدرٍ للألم.
حين اضطر آلاف المدنيين للنزوح بحثًا عن الأمان، كانوا يظنون أنهم سيتركون ممتلكاتهم في حفظ الأيادي التي تعرفهم وتحبهم، لكن المفاجأة أن بعض هذه الأيادي امتدت إليهم بما لا يليق، فنهبت وسرقت وأساءت في لحظاتٍ كنا بأمسّ الحاجة فيها للتعاطف والتكاتف.
ولعل أخطر ما في الأمر أن البعض اعتبر هذه الفوضى فرصة لتحقيق مكاسب شخصية. فُرضت رسوم غير مبررة، وبيعت المواد الأساسية بأسعار باهظة، واحتُكرت السلع، وأُجبر الناس على دفع أثمان مضاعفة فقط من أجل البقاء. كل هذا يجري في مجتمع كان يُعرف يومًا بأنه من أكثر المجتمعات تسامحًا وترابطًا.
هذا الواقع، بكل قسوته، يدفعنا اليوم للتأمل في أنفسنا أكثر من تأملنا في ظروف الحرب. لقد خسرنا الكثير، لا فقط في الحجر والشجر، بل في النفوس التي كنا نراها طاهرة نقية، فإذا بها تنكشف على حقيقتها في لحظة اختبار. وما أحوجنا اليوم إلى مراجعة عميقة، إلى غربلةٍ أخلاقية تعيد ترتيب الأولويات، وتفرز من بيننا من يستحق أن يكون جزءًا من مجتمع يريد بناء وطن، لا من يكتفي بجني الغنائم من تحت ركامه.
إن ما نعيشه لا يجب أن يكون نهاية الحكاية، بل بدايتها. بداية لإعادة بناء منظومة الثقة، وترميم القيم التي تهدمت، وتعزيز شعورنا الجماعي بالمسؤولية. فالمجتمعات لا تقاس بقوتها وقت السلم فقط، بل بقدرتها على التماسك وقت الشدة. ولن نخرج من هذه الأزمة إلا إذا اخترنا أن نكون إنسانيين رغم الألم، وأوفياء رغم الفوضى، ومخلصين لبعضنا رغم كل ما حدث.