جعفر عباس يكتب .. سنة يا أبو الجعافر

0

كنت أجلس في المطعم الذي يملكه والدي في قلب سوق كوستي محاطا بعدد من أقاربي، وكان أبي جالسا وحوله برميل مليء بالثلج وزجاجات كيتي كولا (قال الشاعر: يا قزازة الكولا / والكولا كيتي كولا/ وكل زولة بي زولا)،

وفي تمام الثامنة مساء قالت إذاعة ام درمان انها ستبدأ في إذاعة اسماء المقبولين في جامعة الخرطوم، وتضايقت لأنها بدأت بإذاعة اسماء المقبولين في كلية الحقوق (القانون)، فقد كانت رغبتي الأولى كلية الآداب بينما كانت القانون رغبتي الثالثة، وإذا بالراديو يقول: جعفر عباس سيد أحمد.. الله أكبر.. وانطلقت الصرخات من مختلف ارجاء السوق، وانهالت التهاني على أبي الذي طفرت من عينه دمعات اجتهد في إخفائها، ووقفت مثل العريس أتقبل التهاني مصطنعا التواضع في حين أنني كنت أود أن اصيح بأعلى صوتي: وروروك.. كوستي بلد ابو الجعافر ولد (كانت العبارة الشائعة في تلك الايام هي: كوستي بلد، أحمد كوكو ولد، وكان الأخير من أعيان المدينة ووجهائها).. وتوالت التبريكات: مبروك يا سيادة المحامي..

مبروك يا مولانا (قاضي حتة واحدة).. أحمدك يا رب.. هأنذا رفعت رأس بدين وكوستي عاليا، بعد ان نطق الراديو باسمي على رؤوس الأشهاد.. وعدنا الى البيت لنجد أم العريس التي هي أمي محاطة بالعشرات من نساء الحي وقريباتنا والزغاريد ما تديك الدرب.

وكان حديث الساعة عند قريباتي هو ان الراديو “قالت جافر أباس” وصار ذلك الحديث محطة تاريخية فيقال فلان مولود بعد يوم مما الراديو “قالت جافر أباس دهلت الجاما” (دخلت الجامعة)، وبعدها ولعدة أيام كنت أمشي في شوارع كوستي وأتوهم ان الكل يهمس “دا الولد الجابو اسمه في الراديو”ولم أنم ليلتها من فرط السعادة. لا رداء (شورت) بعد اليوم بل بنطلونات، وكان الرداء هو الزي الرسمي في المرحلة الثانوية.. الوجبات في الجامعة فيها “تحلية” بل أبلغني مصدر موثوق به أنهم يقدمون الباسطة كل يوم اربعاء.. تذاكر القطار ستكون بالدرجة الثانية (مع أن هذه المسألة لم تكن تفرق معي لأنني كمحسي كنت اسافر على اي درجة اختار لأن جماعتنا في عربة السناطور اي البوفيه كانوا يفتحون لنا غرف الدرجة الأولى او غرف النوم إذا كانت شاغرة كما ان عمل أخي الأكبر بالسكة حديد كان يكفل لي السفر في قمرة الكماسرة في أسوأ الأحوال)، ولكن الشيء الذي ظل يحيرني هو: لماذا لم يتم قبولي في كلية الآداب التي كانت رغبتي الأولى؟ علمت لاحقا أن ابن عمتي الشهيد محمد صالح عمر الذي كان استاذا في كلية الحقوق، وعضوا في لجنة القبول في الجامعة هو الذي قرر ان كلية الحقوق هي المكان المناسب لي ثم فتحت الجامعة أبوابها، ولك ان تتخيل مقدار سعادتي عندما تسلمت 13 جنيها من عم داوود امين خزينة الجامعة لشراء الملابس، مع 150 قرشا شهريا تحت مسمى البيرسري، وهي منحة نقدية كانت الجامعة تقدمها للعديد من الطلاب.. وأسكنوني في داخلية بحر الزراف عند مدخل داخليات البركس المتاخمة لمدرسة الخرطوم الثانوية القديمة.

كل غرفة بها سرير من طابقين (شنو الهنا ده؟) وهناك سرير إضافي في العراء للنوم ليلا، وعامل (فَرَّاش) يتولى ترتيب الغرفة والسرير.. بل يغسل ويكوي ملابسك نظير قرش واحد للقطعة (صبرت ونلت يا ابو الجعافر).. وتوجهت الى سوق سعد قشرة واشتريت أقمشة خمسة بنطلونات وثمانية قمصان بنحو 10 جنيهات..

جامعة الخرطوم جاكي بلا، حتى رئيس الوزراء السودان الراحل محمد أحمد محجوب وكان محاميا ومشهودا له بحسن الذوق في الملبس، وفي كل شيء، لم يكن يملك خمسة بنطلونات في تقديري. واشتريت جزمة قزاز، وتعني الجزمة المصنوعة من الجلد اللامع، ومين يعرف،..

يمكن أصير وزير ورئيس حكومة مثله.الغريب في الأمر انني هجرت كلية القانون بعد شهرين من الالتحاق بها، وعملت مدرسا بالمرحلة الوسطى وعدت في السنة التالية الى كلية الآدابطالبا برجوازيا لأنني كنت اتقاضى 21 جنيها شهريا كمعلم، وصرت أملك دراجة (عجلة) رالي (وكانت وقتها تساوي أتوس في عالم اليوم)
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.